کد مطلب:370280 سه شنبه 23 مرداد 1397 آمار بازدید:807

الفصل الرابع الفقه.. وأصوله












الصفحة 224












الصفحة 225


للتوضیح فقط:


إن ظهور «الخوارج» وإن كان قد یبرر على أنه بسبب شبهة أو خطأ فی فهم أمر دینی.. ولكن صبغتهم فی بادىء الأمر كانت سیاسیة محضة، ثم إنهم فی عهد عبد الملك بن مروان مزجوا تعالیمهم السیاسیة بأبحاث لاهوتیة، كما یقوله البعض(1).


ثم جاء الإباضیة بعد ذلك؛ فسنحت لهم الفرصة لتنظیم عقائدهم، وفقههم أكثر من غیرهم من فرق «الخوارج».


وتوضیحاً لذلك نقول: إن من یلاحظ الأحداث التاریخیة، والاحتجاجات المتبادلة فی الصدر الأول، یجد:


أمر «الخوارج» قد بدأ من خلال فهمهم الخاطىء ـ لو أحسنا الظن بهم ـ لمسألة بعینها، هی قضیة التحكیم، وكان المفروض أن یقتصر خلافهم واختلافهم على هذه القضیة بالذات. ولكن رأینا أنهم فیما بعد ازدادوا بعداً عن المسار العام، وصارت تظهر لهم أقاویل فی العدید من المسائل.


والدارس لحال هذه الفئة یلاحظ أنهم كانوا یعتمدون على فهمهم


____________



(1) فجر الإسلام ص259.













الصفحة 226


الخاص للآیات القرآنیة، وعلى استنباطاتهم العقلیة المحدودة، فی مجال التحدیدات العملیة للتصرفات والمواقف التی كانت تفرض نفسها ـ آنیاً ـ علیهم، حیث كانوا یواجهونها باستفادات مرتجلة وسریعة، وما أكثر ما تكون سطحیة، تزجیها المیول، والعواطف، والأحاسیس الشخصیة، ثم لا تلبث أن تتحول إلى مبدأ، وعقیدة، تخاض من أجلها اللجج، وتبذل فی سبیلها المهج، وتزهق النفوس والأرواح.


ثم تصیر سبباً فی حدوث انشقاقات جدیدة فی صفوفهم، وتنشأ ـ من ثم ـ فرقة، أو فرق على الساحة، یبرأ بعضها من بعض. ویستحلّ هؤلاء دماء أولئك، وبالعكس. حتى لنجد زید بن جندب یهنِّئ أعداء الشراة من المحلین، بعد أن تفرق الأزارقة، وأصابهم التجابن، وتلهّوا باللعب دون الجد؛ فیقول:





















قل للمحلّین قد قرت عیونكم بفرقة القوم والبغضاء والهرب
كنا أناساً على دین، ففرّقنا قرع الكلام، وخلط الجدّ باللعب
ما كان أغنى رجالاً ضل سعیهم عن الجدال، وأغناهم عن الخطب
إنی لأهونكم فی الأرض مضطرباً ما لی سوى فرسی والرمح من نشب(1).

ثم إن تحریمهم العمل بالتقیة الذی كان كثیراً ما یسقط تحت تأثیر واقع الحروب القاسیة التی كانوا یخوضونها، كان هو الآخر من أسباب إحداث تمزقات فكریة وعقیدیة تنتهی بتكفیر بعضهم بعضاً، ثم مواجهات حامیة لبعضهم البعض..


أضف إلى ذلك: أن إیجابهم الخروج ضد الحكام وضد الكافرین إذا انضم إلى حكمهم بتحریم العمل بالتقیة، فإنه كثیراً ما ینتج ثورات


____________



(1) الخوارج فی العصر الأموی ص280.













الصفحة 227


ارتجالیة لم تبلغ درجة النضج، ولا حظیت بالإعداد والاستعداد الكافی.


«الخوارج».. والعلم:


إن من یراجع قائمة مؤلفات علماء الإسلام فی العالم الإسلامی، یجدها لا تقع تحت عد، ولا یحیط بها حصر.. وقد شاركت مختلف الفرق الإسلامیة وغیرها فی التألیف والتصنیف بالمستوى المقبول والمعقول..


غیر أن «الخوارج» لم یكن لهم حظ یذكر فی هذا الاتجاه، فلم یكن لیخطر لهم على بال أن یشاركوا فی النشاط الفكری والثقافی.. وكأن بینهم وبین هذا الأمر حالة من المنافرة السافرة.


وقد حاول البعض: تفسیر ذلك فجاء بما لا ینفع ولا یجدی، ولا یصح، فقال: «.. وفیما نعتقد: أن السرّ وراء ندرة كتب الخوارج بینما توفر بین صفوفهم الشعراء والخطباء، هو أنه بجانب عدم استواء المذهب فی هذا الموضوع یوجد عامل التكتم الشدید، والحذر من الناس، خشیة أن یقع فی أیدیهم شیء یجمع قواهم ضد الخوارج، أو ینفر الناس منهم إلخ..»(1).


وهذا الكلام: مرفوض جملة وتفصیلاً لأنهم كانوا یجاهرون بعقائدهم تلك، فیقتلون الناس علیها.


ولأن من مذهبهم تحریم التقیة. ورفض العمل بها، بل السر هو أعرابیتهم، وجهلهم، والإنسان عدو ما یجهل كما هو معلوم.


ولیس ثمة أعظم محنة من شیعة أهل البیت (علیهم السلام) على مر التاریخ، وهذه هی مؤلفاتهم تملأ الخافقین..


____________



(1) الخوارج عقیدة وفكراً وفلسفة، ص133.













الصفحة 228


مؤلفو «الخوارج» فی الفقه:


واللافت هنا: أن ابن الندیم قد عقد فصلاً مستقلاً لفقهاء الشراة وذكر لهم مؤلفین وكتباً. وذكر مثل ذلك فی دائرة المعارف الإسلامیة مادة: أعز ابن.


ولكن ذلك لا یعنی: أن ذلك یستحق التنویه به، والاهتمام بشأنه، لا من حیث الكیف، ولا من حیث الكم.. غیر أن أصحاب الفهرستات یحبون أن لا تخلو كتبهم من ذكر شیء من ذلك، لیتمكن من یحتاج إلى الوقوف على مقالات هذه الطائفة أو تلك أن یرجع إلى كتبها، لیحصل على بغیته، ویبلغ مراده.


أسباب التخفیف من حدة التعالیم:


ویلاحظ: وجود بعض التخفیف من حدة التعالیم لدى فرقة الإباضیة من «الخوارج»، ولعل ذلك من أجل أنهم شعروا أن ذلك هو ما یمكنهم من الاستمرار والبقاء، ومما سهل لهم وعلیهم ذلك انحسارهم عن مواقع الاحتكاك والهیجان والتحدی، إلى مناطق نائیة، تذوقوا طعم الاستقرار، وأنسوا تدریجیاً بالحیاة الرافهة، وبتعبیر أدق بحیاة الراحة، فأتاح لهم ذلك الفرصة للتألیف فی العقائد وفی الفقه، وتلطیف آرائهم، وإخضاعها للتبویب والتنظیم، وإن كانت قد بقیت مجرد تجارب بدائیة، وغیر ناضجة، ولا غزیرة.


وعلى كل حال: فقد قال بعض المستشرقین هنا، بعد أن ذكر أن جذوة «الخوارج» قد انطفأت منتصف القرن الثامن [أی المیلادی] أی فی القرن الثانی الهجری ـ قال: «وبعد ذلك انحرفت فعالیة «الخوارج» شیئاً












الصفحة 229


فشیئاً نحو التجارة، وتألیف الكتب الدینیة الفقهیة، والتاریخیة»(1).


كما أن أبا زهرة یعتقد: أن الإباضیة: «لهم فقه جید، وفیهم علماء ممتازون»(2).


ولكننا بملاحظة ما قدمناه لا نستطیع أن نوافق أبا زهرة فی هذا المجال، إلا فی حدود بعض الجزئیات على النحو الذی أشرنا إلیه آنفاً، وما عداه یفتقر إلى الدلیل البرهانی القوی.


ولعل أبا زهرة وغیره قد أخذوا ذلك من ابن خلدون، الذی یقول: «وتطیر إلینا فی هذا العهد من تلك البلاد [أی التی یتواجد فیها الخوارج] دواوین ومجلدات من كلامهم فی فقه الدین، وتمهید عقائده، وفروعه، مباینة لمناحی السنة وطرقها بالكلیة، إلا أنها ضاربة بسهم فی إجادة التألیف والترتیب، وبناء الفروع على أصولهم الفاسدة»(3).


وقد عرفنا من خلال الإطلالة على واقع تآلیفهم: أن هذه أقوال مبالغ فیها،غیر أن علینا أن لا ننسى أن جمودهم وسطحیتهم قد أدیا فی حالات كثیرة إلى ظهور كثیر من السخافات المضحكة، بالإضافة إلى أنه قد جعل آرائهم تتسم بالسطحیة والبساطة(4).


قال أحمد أمین: «.. من أجل هذا لم یرو لنا عن الخوارج مذهب مفلسف، ولا فقه واسع منظم، ولا نحو ذلك، إلا ما كان من الإباضیة،


____________



(1) الإسلام ـ ص188/189.


(2) تاریخ المذاهب الإسلامیة ص85.


(3) تاریخ ابن خلدون ج3 ص170.


(4) ضحى الإسلام ج3 ص334و335.













الصفحة 230


أتباع عبد الله بن إباض الخارجی، الذی مات فی عهده عبد الملك بن مروان، فإن هذه الفرقة عاشت، وانتشرت فی شمالی إفریقیة، وفی عمان، وفی حضرموت، وزنجبار، واستمرت إلى یومنا هذا؛ فكان من الطبیعی أن یكون لهم أصول اعتقادیة، وتعالیم فقهیة. وكذلك كان.. فقد تعدّل مذهبهم مع الزمان إلخ..»(1).


وقال الغرابی: «ویلاحظ: أنه لما ضعفت قوتهم الحربیة اتجهت نفوسهم نحو الإنتاج العلمی، حتى أصبحت لهم مؤلفات فقهیة، وكلامیة، ولغویة، وأدبیة»(2).


و لسنا بحاجة إلى إعادة التذكیر بأن ذلك لم یكن فی المستوى اللائق، والمقبول، بل هو مجرد تجارب بدائیة، فیها الكثیر من السطحیة، والضعف، ولا یمكن أن تقاس من حیث الدقة والاتقان بغیرها من مؤلفات سائر الفرق.


أضف إلى ذلك: أن عنفهم وحدّتهم فی مواجهة المخالفات لتلك الآراء الفقهیة والعقائدیة كان من شأنه أن یضفی علیها لوناً غیر مرغوب فیه، وینفر الناس حتى من ذلك الرأی الفقهی الذی ربما صادف وجاء صحیحاً فی بعض الأحیان.


هل للإباضیة فضل على العلوم الإسلامیة:


وقد ادعى أحدهم أن: «.. الحق: أنه لا أحد یستطیع أن ینكر دور الإباضیة فی خدمة العلم


____________



(1) ضحى الإسلام ج3 ص336 و337.


(2) تاریخ الفرق الإسلامیة ص284.













الصفحة 231


الإسلامی، فقد اشتغلوا بالتدوین، فكانوا من أوائل من دوّن الحدیث.


فإمامهم جابر بن زید، من أوائل من دوّن الحدیث، وأقوال الصحابة فی دیوانه الذی وصفوه بأنه وقر بعیر، ثم تلامیذه من بعده. وهم حملة العلم»(1).


ونقول:


أولاً: إن اعتبار جابر بن زید من الإباضیة بصورة قاطعة.. غیر دقیق، وقد سئل جابر بن زید نفسه ـ كما یقولون ـ عن انتحال الإباضیة، فقال: أبرأ إلى الله من ذلك(2).. وكیف یكون اباضیاً خارجیاً، وقد روى عن معاویة وابن الزبیر.


ثانیاً: إن مجرد أن یتصدى رجل أو بضع رجال لتدوین الحدیث، فذلك لا یعنی أن ینسب إلى طائفته التی ینتمی إلیها: أنها قد أسهمت إسهاماً كبیراً فی خدمة العلم الإسلامی. بل لابد أن ینظر إلى حقیقة دوره فی ذلك، وتقاس إسهاماته فی هذا المجال مع ما أسهم به الآخرون، فقد یكون إسهامه لا یكاد یذكر إلى جانب ما أسهم به الآخرون..


ثالثاً: إننا لا نجد أثراً ظاهراً ومحسوساً لما دونه جابر بن زید فی مجمل التراث الحدیثی الإسلامی. وكذلك ما دونه تلامذته من بعده.


رابعاً: إن من عدوهم من تلامذة جابر بن زید لیسوا فی عداد الإباضیة، ولا «الخوارج»، فلماذا تعطى الأوسمة لهذه الفرقة جزافاً، وبلا حساب.


____________



(1) الخوارج عقیدة وفكراً وفلسفة ص82.


(2) الجرح والتعدیل لابن ابی حاتم ج1 ص494و495 وتهذیب التهذیب ج2 ص38.













الصفحة 232


خامساً: إنه قد ادعی: أن «الخوارج» هم حملة العلم.. وهی دعوى لم نعرف لها وجهاً معقولاً ولیس لها شاهد أو دلیل.. فإن حملة العلم هم علی والأئمة من ولده علیهم الصلاة والسلام، وأعنی بهم الحسنان، والسجاد، والباقر، والصادق.. وتلامذتهم، ومن أخذ عنهم.


بالإضافة إلى آخرین حملوا شیئاً من ذلك، وهم لیسوا من «الخوارج» بالتأكید.


تضییق «الخوارج» على أنفسهم:


ثم إن علینا: أن نضیف إلى ما تقدم أن جمودهم، وعدم مرونتهم فی التعامل مع النصوص قد أوقعهم فی ضیق فاحش، كما روی عن الإمام الصادق (علیه السلام): «الدین واسع، ولكن «الخوارج» ضیقوا على أنفسهم من جهلهم»(1).


ومن مظاهر جمودهم هذا، وتضییقهم على أنفسهم بجهلهم أن أكثرهم كان ضد تأویل القرآن كا قدمنا.


الفتیا والعلم عند «الخوارج»:


ولكن ضحالة علم «الخوارج»، وقلة بل ندرة تآلیفهم، لا تعنی أنهم استمروا على هذا الحال إلى ما لانهایة.


بل الأمر قد شهد شیئاً من التغییر وإن كان طفیفاً، بالمقایسة بما كان عند غیرهم من الفرق والمذاهب، إذ قد كان من الطبیعی أن یعلق فی أذهانهم بعض من أحكام الدین وتعالیمه، خصوصاً وأنهم یشنعون


____________



(1) الكافی ج2 ص298 والوسائل ج3ص332 ح1 وج2 ص1072 ح3.













الصفحة 233


على بنی أمیة، ویرمونهم بالجهل وبالفجور، ومخالفة أحكام الله..


ثم إنهم یجتذبون بعض الشباب، والسذج والبسطاء بشعاراتهم الدینیة، وبادعائهم أنهم حماة الشریعة، ودعاة الإیمان.. فكان لابد لهم من الإلمام بما یعرضهم جهلهم به إلى السخریة من الناس، وتهجین أمرهم.


ولعل هذا الذی ذكرناه یفسر لنا لجوء نجدة الحروری إلى ابن عباس لتعلم بعض ما أشكل علیه. واللافت: أن ما سأله عنه هو من أبسط مسائل الفقه وأوضحها..


ولا نبعد كثیراً إذا قلنا: إنه قد یكون لبعض ما عندهم من فتاوى ومعارف یسیرة نصیب من الصحة، لأنه فی معظمه مأخوذ من السیرة العملیة للناس، أو نابع من الطبیعة البدویة من حیث انسیاقه مع الفهم الفطری والعفوی لبعض الآیات، أو لبعض الأحادیث النبویة.


وبذلك یكونون أفضل من العجلیة ـ الذین هم فرقة من الزیدیة ـ وأقرب منهم إلى فهم النصوص، حسبما روی عن الإمام الصادق (علیه السلام).


فعن حمدویه، عن أیوب بن نوح، عن صفوان، عن داود بن فرقد، عن أبی عبد الله (علیه السلام)؛ قال: «ما أجد أحداً أجهل منهم ـ یعنی العجلیة ـ إن فی المرجئة فتیا وعلماً، وفی «الخوارج» فتیا وعلماً إلخ..»(1).


____________



(1) اختیار معرفة الرجال ص229 و346.














الصفحة 234


ولكن من الواضح: أنه (علیه السلام) إنما قایسهم بالعجلیة، وفضلهم علیهم، واعتبرهم كالمرجئة. ولم یقایسهم بفقهاء وعلماء سائر الفرق الإسلامیة، فضلاً عن أن یقایسهم بالشیعة الأبرار رضوان الله تعالى علیهم..


فهم بالنسبة للعجلیة من الزیدیة لدیهم فقه وعلم. إذن فمقدار ما عندهم إنما یعرف إذا قیس إلى ما عند العجلیة، الذین یظهر من الإمام أنهم كانوا أجهل الخلق وأبعدهم عن العلم، ولذلك قال: «ما رأیت أجهل منهم». حتى إن «الخوارج» والمرجئة یعدون من العلماء إذا ما قسناهم بالعجلیة الذین بلغوا الغایة فی الأمیة والجهل..


ثم إنهم مالبثوا أن انكمشوا على أنفسهم من جدید، وانحسروا عن مناطق الثقافة والعلم، لیعیشوا فی حواشی البلاد الإسلامیة، فی مناطق نائیة، ولتعود إلیهم أعرابیتهم. وأصبحوا لصوصاً سلابین، كما أخبر أمیر المؤمنین (علیه الصلاة والسلام).


تقییم إجمالی:


ولكن المهم فی الأمر: هو أن تلك الفتاوى الصحیحة التی كانت عندهم مهما كانت قلیلة، فإنها إنما كانت مجرد حالات جزئیة أدركوها بالنقل، أو بالسلیقة والفطرة الساذجة، منفصلة تماماً عن كل ما سواها، فلم یكونوا یملكون تصوراً عاماً، ولا نظرة شمولیة، من شأنها أن تعطیهم القدرة على استیعاب المعارف المختلفة، وتوجیهها وجهة صحیحة فی مجال الاستفادة منها والاستنتاج، وإدراك أبعاد الموضوع، وما یرتبط به..


وذلك هو بعض ما یرمی إلیه أمیر المؤمنین (علیه السلام)، حینما طلب من ابن عباس أن لا یخاصمهم بالقرآن؛ فإن القرآن حمال ذو وجوه.












الصفحة 235


ابن حجیة مخدوع، أم ماكر؟!


وعلى أساس ما قدمناه یظهر لنا جلیاً: أن لا مجال لقبول المبالغات فی إغداق الألقاب على «الخوارج» إلى درجة اعتبارهم من الفقهاء، والقراء، كما هو الحال بالنسبة لیزید بن حجیة الذی كان أمیر المؤمنین (علیه السلام) قد ولاه الری، ودستبى؛ فسرق أموالهما، ولحق بمعاویة..


ثم كتب لأحد بنی عمه رسالة جاء فیها: «.. والثالثة: أن قراءكم، وفقهاءكم، وفرسانكم خالفوكم، فعدوتم علیهم فقتلتموهم»(1).


فإن هذا الكلام غیر مقبول، وهو دلیل جهل ابن حجیة، أو دلیل سعیه لتضخیم الأمور، مضادة منه لعلی (علیه السلام)، ثم تبریر خیانته لدینه وامامه، بهذه الطریقة التی تعتمد التزویر للحقائق، والتضلیل للناس.


وخلاصة القول:


1ـ إن هذا الكلام یدخل فی سیاق الكید الإعلامی ضد علی (علیه السلام) وشیعته من قبل رجل خائن لأمانة الله، ورسوله، والمسلمین. قد التحق بعدو ولی الله، ویرید أن یتزلف إلیه.


2ـ إن هذا الرجل ـ أعنی یزید بن حجیة ـ لم یكن هو نفسه من أهل العلم والفقه، لیؤخذ بقوله فی معرفة درجات الآخرین فی هذه المجالات، فإن حاول شیئاً من ذلك، فإنما یقیس الآخرین على نفسه، ویقارن علمهم ـ أو ما توهم أنه علمهم ـ بجهله.


3ـ ولو أردنا أن نغض الطرف عن ذلك، ونعتبره مخدوعاً بمظاهر هؤلاء القوم، فنقول:


____________



(1) شرح نهج البلاغة للمعتزلی ـ ج2 ـ ص263 عن الموفقیات.













الصفحة 236


إن من الواضح: أنهم لم یكونوا هم الفرسان المرموقون الأشداء فی جیش علی (علیه السلام)، وقد ظهر ضعفهم وخورهم فی حرب النهروان إلى درجة مزریة، وممعنة بالخزی والهوان.


4ـ كما أنهم لم یكونوا الفقهاء فی دین الله، بل كانوا على درجة من الغباء، إذ كانوا یقرؤون القرآن یحسبون أنه لهم، وهو علیهم كما قدمناه.


من فقه «الخوارج»!!


وكنموذج نشیر إلى درجة فقاهتهم، وعلمهم بالشریعة نذكر ما یلی:


یقال: إن نجدة أسقط حد الخمر(1).


وقالت النكاریة: إن الله لم یأمر بالنوافل. وأنه یجوز شرب الخمر على التقیة(2).


والنكاریة هم فرقة من الإباضیة كما هو معلوم.


«وقد شهر نافع بقوله فی البراءة، والاستعراض، واستحلال الأمانة، وقتل الأطفال»(3).


كما أن الأزارقة: قد حرموا قتل النصارى والیهود، وأباحوا قتل المسلمین(4).


____________



(1) الخوارج عقیدة وفكراً وفلسفة ص76 و77.


(2) الإباضیة عقیدة ومذهباً ص54 عن الإباضیة بین الفرق الإسلامیة ص363.


(3) راجع: مقالات الإسلامیین ـ ج1 ـ ص169 والكامل فی الأدب ـ ج3 ـ ص1040 والمصنف المجهول ـ ص78 والخوارج فی العصر الأموی ـ ص224 عمن تقدم.


(4) الفصل لابن حزم ج4 ص189 والخوارج فی العصر الأموی ص226 عنه.













الصفحة 237


وذكر البعض: «أن الإباضیة یجیزون شهادة غیر الإباضی، ومناكحته، والتوارث منهم، وتحریم دمائهم»(1).


وكان الأزارقة: یستحلون أمانة غیرهم من الناس لكونهم مشركین؛ فأنكر علیهم ابن إباض، وصاحب الصفریة ذلك.


وقالا: إن الأمانة مؤداة للبر والفاجر على السواء(2).


وأنكرت النفائیة خطبة الجمعة، وقالوا: «إنها بدعة. وأنكروا على الإمام استعمال العمال والسعاة لجبایة الحقوق الشرعیة، ومطالب بیت مال المسلمین من الرعایا»(3).


وفرقة الحسینیة من الإباضیة: «أباحوا الزنى، وأخذ الأموال لمن أكره على ذلك، یتقی بها، ویغرم بعد ذلك.


كما أنهم فرقوا بین الأسماء والأحكام، فسموا الیهود منافقین، وسموا المتأولین مشركین، وأجازوا السبی، وأحلوا النكاح منهم. وهم عندهم مشركون»(4).


والسكاكیة من الإباضیة یقولون: صلاة الجماعة بدعة. والأذان للصلاة عندهم بدعة، فإذا سمعوه، قالوا: نهق الحمار(5).


____________



(1) الإباضیة ص78و83 عن الفرق بین الفرق ص103 وراجع: الملل والنحل ج1 ص134.


(2) مقالات الإسلامیین ج1 ص174 والخوارج فی العصر الأموی ص225و226 عنه وعن المصنف المجهول ص84.


(3) الإباضیة ص58.


(4) الإباضیة ص62.


(5) الإباضیة عقیدة ومذهباً ص65 عن الإباضیة بین الفرق الإسلامیة ص275.













الصفحة 238


وذكروا: أن الأزارقة یوجبون على الحائض الصلاة والصیام فی حیضها. وأنكره بعضهم(1).


أما البدعیة فإنهم یزعمون: «أن الصلاة صلاتان؛ بالغداة ركعتان، وبالعشی ركعتان لا غیر»(2).


وأبطلوا رجم المحصن، وأوجبوا قطع ید السارق من الإبط(3).


والمیمونیة یجیزون نكاح بناتهم(4).


وكان الربیع بن حبیب یقول بحلیة المتعة(5).


وأما المیمونیة، فإنهم یجیزون نكاح بنات الابن، وبنات البنات، وبنات بنی الأخوة، وبنات بنات الأخوات.


قالوا: لأن الله عز وجل قال (وأحل لكم ما وراء ذلكم)(6).


وقال بعض البیهشیة: السكر من شراب حلال، لا یؤاخذ صاحبه(7).


____________



(1) الفصل لابن حزم ج4 ص189 والخوارج فی العصر الأموی ص226 عنه، والنص والاجتهاد ص99 والعتب الجمیل ص53 عن كتاب: نقد عین المیزان لمحمد بهجت البیطار.


(2) البدء والتاریخ ج5 ص138 والعتب الجمیل ص53 عن كتاب: نقد عین المیزان للبیطار.


(3) النص والاجتهاد ص99.


(4) اعتقادات فرق المسلمین والمشركین ص57 والإباضیة عقیدة ومذهباً ص39.


(5) العقود الفضیة ص156.


(6) البدء والتاریخ ج5 ص138. وراجع: الخوارج عقیدة وفكراً وفلسفة ص62و134، ومقالات الإسلامیین ج1 ص166 عن الكرابیسی والعتب الجمیل ص53 عن نقد عین المیزان للبیطار، ودائرة المعارف الإسلامیة ج8 ص475 والأنوار النعمانیة ج2 ص248 واعتقادات فرق المسلمین والمشركین ص56 والإباضیة ص36 عن الملل والنحل ج1 ص128 عن العجاردة وص129 عن المیمونیة..


(7) الأنوار النعمانیة ج2 ص246.













الصفحة 239


وعن الأخنسیة تجویز نكاح المسلمات من مشركی قومهم(1).


علم علی (علیه السلام) بنظر الإباضیة:


وإذا كانت هذه هی بعض النماذج من فقه هؤلاء القوم.. فإن ما یثیر عجبنا هو أنهم كغیرهم یعترفون بتقدم علی (علیه السلام) فی العلم والفقه، مع أن «الخوارج» هم ألد أعدائه (علیه السلام). ونكتفی هنا بما قاله الحارثی الإباضی عنه (علیه السلام): «كان علی آیة فی غزارة العلم، واستنباطه للأحكام، وحله للمشكلات. وكان عمر بن الخطاب یرجع إلیه فی القضایا المشكلة»(2).


السنة النبویة والإجماع:


كما أن فرقة السكاكیة المتفرعة عن الإباضیة قد أنكرت الإجماع كدلیل على الحكم الشرعی. بل لقد أنكروا السنة النبویة، وزعموا: أن الدین كله مستخرج من القرآن(3).


وقال البعض: «كان من بینهم من یقول: بأن القرآن وحده هو المصدر المعترف به»(4).


____________



(1) الأنوار النعمانیة ج2 ص249 والخوارج عقیدة وفكراً وفلسفة ص65..


(2) العقود الفضیة ص42.


(3) الإباضیة عقیدة ومذهباً ص65 عن الإباضیة بین الفرق الإسلامیة ص275..


(4) دائرة المعارف الإسلامیة ج8 ص476.













الصفحة 240


«الخوارج» والروایة:


ولأجل ما تقدم، فإن «الخوارج» لم یكن لهم حظ فی نقل السنة النبویة الشریفة.


قال الشیخ المفید (رحمه الله) تعالى: «إن الخوارج لیسوا من أهل النقل والروایة، ولا یعرفون حفظ الآثار، ولا الاعتماد على الأخبار؛ لإكفارهم الأمة جمیعاً، واتهام كل فریق منهم فیما یروونه، واعتمادهم لذلك على ظاهر القرآن، وإنكارهم ما خرج عنه القرآن، من جمیع الفرائض والأحكام إلخ..»(1).


الاجتهاد:


وبالنسبة للاجتهاد فقد: «شهر ابن الأزرق بملاحقاته لابن عباس، وعرض مسائله الفقهیة علیه»(2).


ومهما یكن من أمر: فإن «الأزارقة لا تعتبر الاجتهاد أصلاً فی الأحكام، حتى إنه عند الأزارقة: أن ما لا ینص علیه من الأحكام لیس بواجب القیام به، كحدّ من یقذف الرجال.


وأما النجدات: فاهتموا بالاجتهاد أعظم الاهتمام. حتى إنه عندهم من اجتهد فی شیء، وأخطأ فیه فهو معذور. بل جعلوا نصف الدین یعرف عن طریق الاجتهاد»(3).


____________



(1) الجمل ص38.


(2) الخوارج فی العصر الأموی ص221 عن الاتقان ج1 ص149 و165.


(3) الخوارج عقیدة وفكراً، وفلسفة ص75.













الصفحة 241


هكذا صور لنا هذا المؤلف نظرة النجدات إلى موضوع الاجتهاد، لكن الأشعری لا یظهر هذا المستوى من الحماس.


حیث إنه یكتفی بالقول: إن النجدات أجازوا الاجتهاد فی بعض الأحكام الشرعیة(1).


ونفهم من عبارته هذه: أن غیرهم من «الخوارج» ما كانوا یجیزون الاجتهاد، فلا غرابة فی ندرة وجود فقهاء مشهورین یشار إلیهم بالبنان فیهم، أو فی وجود فقهاء تذكر لهم أقوال فی سیاق تعداد أقوال من یعتد بقوله.


ولعل سبب نسبة القول بجواز الاجتهاد إلى النجدات هو أنهم ینقلون عن نجدة الحروری قوله: «من استحل محرماً من طریق الاجتهاد فهو معذور، حتى إن من تزوج أخته أو أمه مستحلاً لذلك بجهالة، فهو معذور ومؤمن»(2).


عملهم بالقیاس:


وقد وصف الشهرستانی: المحكمة الأولى بأنهم كانوا أشد الناس قولاً فی القیاس(3).


وقد أنكر البعض ذلك على اعتبار: أنهم لم یقبلوا احتجاج علی (علیه السلام) علیهم بالقیاس فی مسألة التحكیم بأمر الله بالتحكیم فی الخلاف بین الرجل وزوجته، وزعموا: أن الله لم یأمر بالتحكیم فی الحرب(4).


____________



(1) مقالات الإسلامیین ج1 ص206 والخوارج فی العصر الأموی ص204.


(2) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید ج4 ص134.


(3) الملل والنحل ج1 ص116 وحول قولهم بالقیاس راجع: العقود الفضیة ص166.


(4) الخوارج فی العصر الاموی ص204 عن الكامل فی التاریخ ج3 ص327.













الصفحة 242


ونقول:


إن قولهم هذا لا یدفع قول الشهرستانی، فإنه یزعم أنهم كانوا یستعملون القیاس فی مسائلهم الفقهیة الكثیرة. وموقفهم من التحكیم فی الحرب، ورفضهم قیاسه على التحكیم بین الرجل وزوجته، یمكن أن یقال: إنه من أخطائهم الظاهرة لسببین:


أحدهما: إن ما احتج به علی (علیه السلام) علیهم لیس من قبیل القیاسات الظنیة التی یلتزم بها «الخوارج»، بل هو من قبیل تطبیق الحكم الكلی على موضوعاته، والاستدلال بالنص العام على موردٍ هو من مصادیقه.


الثانی: إنهم حتى إذا كانوا قد اعتبروا ذلك من قبیل القیاس الظنی، كانوا یعملون به فی سائر المسائل الفقهیة، فإن عدم قبولهم به یكون بسبب قلة تدبرهم وهو أحد التناقضات التی وقعوا فیها وما أكثرها.


الثالث: إننا نقول: إن «الخوارج» الأولین الذین خرجوا على علی (علیه السلام) لم یكونوا من الفقهاء الذین یستنبطون الأحكام، ولا كانوا أصحاب اجتهاد، فضلاً عن أن یكون لدیهم منطلقات وأسس اجتهادیة والتفات إلى أن هذا من القیاس، أو لیس منه، بل كانت مواقفهم منطلقة من نزوات، وارتجالات لا تستند إلى دلیل معقول، ومقبول..


ومهما یكن من أمر،:فإن التنصیص على أن السكاكیة، وهم فرقة من الإباضیة ـ قد أنكروا القیاس(1)، یشیر إلى أنهم بقولهم هذا قد خالفوا أهل نحلتهم. وبذلك یتأید قول الشهرستانی. وهو یتحدث عن اطلاع، ومعاینة وهو أصح من اجتهاد غیره الظنی.


____________



(1) الإباضیة عقیدة ومذهباً ص65 عن الإباضیة بین الفرق الإسلامیة ص275.













الصفحة 243